حين تتحول الصورة إلى مقاومة: من صحافة المواطن إلى وعي رقمي تحت الرقابة

حين تتحول الصورة إلى مقاومة: من صحافة المواطن إلى وعي رقمي تحت الرقابة

على مدى العقود الماضية، شهدت صحافة الصور تحولاً جذرياً، منتقلةً من عصر الصور الثابتة المنشورة في وسائل الإعلام المطبوعة إلى منظومة رقمية ديناميكية وتفاعلية تدمج التصوير الفوتوغرافي مع المعلومات والتكنولوجيا. لم يُغيّر هذا التحول طريقة سرد القصص فحسب، بل أحدث أيضاً ثورةً في طريقة تفاعل الجمهور مع السرديات البصرية، محولاً إياهم من مشاهدين سلبيين إلى مشاركين فاعلين في بناء المعنى وفهم السياق.

كان النموذج التقليدي، واقتصار الصحافة التصويرية إلى حد كبير على الصحف والمجلات، مصحوبة بتعليقات توضيحية قصيرة. كدليل للتفسير، مما غالباً ما يحصر فهم المشاهد في سردية محددة مسبقاً. أما اليوم، فقد استُبدل هذا الإطار بتجربة وسائط متعددة، في عصرٍ تحوّل فيه الفضاء الإلكتروني إلى ساحةٍ رئيسية لنقل الأخبار وتشكيل الرأي العام، برزت مفاهيم الوعي الرقمي وصحافة المواطن كعناصر أساسية لفهم المشهد الإعلامي الحديث. وقد اتضح ذلك جليًا خلال الأحداث السياسية الأخيرة؛ حيث اشتدت النزاعات على الأرض بالتوازي مع معارك محتدمة على منصات التواصل الاجتماعي.

اصبحت الصورة الواحدة بوابةً لقصة أوسع وأكثر تنوعاً وتفاعلية. مثل الخرائط التفاعلية والجداول الزمنية والتصوير بالطائرات المسيرة، والواقع المعزز و صياغة السرد القصصي البصري، مما يسمح للجمهور بتصفح القصص مكانيًا وزمانيًا، كاشفًا عن أبعاد جغرافية وتاريخية وإنسانية أعمق.

ومن الأمثلة البارزة على هذا التطور دمج الخرائط التفاعلية في تغطية الأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية. تُمكّن منصات ماب بوكس  المشاهدين من تتبع الأحداث الجارية آنيًا، ومراقبة المناطق المتضررة على الخريطة، وربط الصور مباشرةً بإحداثياتها الجغرافية. لا يُعزز هذا النهج الفهم فحسب، بل يُرسّخ أيضًا نوعًا جديدًا من الوعي الرقمي القائم على التفاعل والمشاركة النقدية.

ومن المهم أن نعلم ان التكنولوجيا ليست غاية في حد ذاتها، بل هي وسيلة لإضفاء الطابع الديمقراطي على الوصول إلى المعلومات ودعوة الجماهير للمشاركة في عملية سرد القصص. يُمكّن المستخدمون من استكشاف المحتوى بناءً على فضولهم وسياقاتهم الثقافية وأطرهم الفكرية. بهذه الطريقة، تصبح الصحافة التصويرية الحديثة أكثر من مجرد وسيلة لنقل القصص؛ بل تُصبح منصةً لبناء الوعي، وتشجيع التفكير النقدي، وتعميق الوعي الجماعي من خلال مساحة رقمية متعددة الأبعاد، وتكسر احتكار المؤسسات الإعلامية لنقل المعلومة، وفتحت المجال لأصوات متنوعة لنقل وجهات نظر وروايات ميدانية ربما كانت مغيّبة في الإعلام التقليدي.

برزت صحافة المواطن في الأزمات والكوارث والنزاعات كعامل حاسم لنقل حقائق على الأرض بسرعة وآنية قد تتفوق أحيانًا على التغطية التقليدية. مثل ما حدث خلال الربيع العربي قبل أكثر من عقد، لعب المواطنون عبر وسائل التواصل دورًا محوريًا في إيصال مشاهد الاحتجاجات والانتهاكات إلى العالم. ويتكرر المشهد اليوم في النزاعات الحديثة وتجلى هذا التحول بوضوح في التوثيق المستمر للهجوم الإسرائيلي على غزة.

في مناطق النزاع تجاوز التصوير الفوتوغرافي التوثيق ليصبح أداةً حيويةً لتشكيل الوعي العام  محليًا وعالميًا. وقد احتلت الصحافة التصويرية الرقمية مركز الصدارة في هذه العملية، مستفيدةً من التقنيات الناشئة لتمكين المواطنين العاديين من المساهمة في السرد، غير أن صحافة المواطن لا تعني غياب المعايير؛ فلابد للفاعلين فيها من اكتساب مهارات التحقق من المعلومات والالتزام بأخلاقيات النشر تجنبًا لنشر الشائعات أو تعريض أنفسهم ومجتمعاتهم للخطر.

إن هذا التطور لم يحدث بمعزل عن عوامل أخرى. بل كان الدافع وراء ذلك هو التقاء التصوير الفوتوغرافي مع الأدوات الرقمية التفاعلية، وخاصةً التقنيات الجغرافية المكانية، التي تتيح تثبيت كل صورة بدقة في موقع محدد. يُنشئ هذا التثبيت المكاني سردًا بصريًا متماسكًا وغامرًا. ومن خلال منصات مثل اوبن ستريت ماب تمكن للمستخدمين تتبع مسار التفجيرات، ومشاهدة الأحياء المتضررة، وربط الصور بالقصص الشخصية لسكان هذه المناطق. تتجاوز هذه التجربة مجرد نقل المعلومات؛ بل تضع المشاهد في قلب الحدث – بصريًا وعاطفيًا وفكريًا.

وفي عصر يُهدد فيه التشبع البصري بتقليل حساسية المشاهدين، يُتيح التقاء التصوير الفوتوغرافي والتفاعل الرقمي إمكانيات متجددة للتأثير. إنه يُؤكد مجددًا قوة الصورة – ليس فقط كسجل، بل كبوابة للفهم والتعاطف والعمل. مع استمرار تطور التصوير الصحفي، يظل دوره في تشكيل الخطاب العام والشهادة على الأحداث أكثر أهمية من أي وقت مضى.

فبالتزامن مع هذا الصعود واستخدام الصحفيين لهذه الأدوات لبناء سرديات غامرة متعددة الوسائط. تُمكّن هذه المنصات من دمج الصور والفيديو والصوت المحيط وتحديد الموقع الجغرافي الدقيق في قصص بصرية متماسكة. والنتيجة هي شكل أعمق وأكثر تنوعًا من سرد القصص – شكل يتجاوز السياق المباشر للأخبار العاجلة ليقدم تجارب تفاعلية غنية حيث يمكن للمستخدمين تصفح فصول القصة والمشاركة في تحليلاتهم الخاصة. مما يعزز ما يُطلق عليه الباحثون والعاملون في مجال الإعلام الآن “محو الأمية الرقمية”.

إنه أسلوب من الوعي يتجاوز التعاطف ويؤثر على الخطاب العام وصنع السياسات. خاصةً في ظل منع دخول الصحافة الدولية واستهداف البنية التحتية الإعلامية في غزة على سبيل المثال، تطورت الصحافة البصرية لتصبح ساحة معركة رقمية ومساحة مقاومة تتحدى الرقابة وتكشف الحقائق الخفية.

ومن الأمثلة الواضحة على هذا التحول إن الصور التي يلتقطها مواطنون من داخل الأحياء المدمرة والمستشفيات التي تعرضت للقصف ومخيمات النازحين في غزة. لم تعد مجرد منشورات خام متداولة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ بل أُعيد تنظيمها في منصات تفاعلية تصور الفظائع في سياقها الجغرافي. ومن الأمثلة البارزة على ذلك موقع غزة ماب لايف، وهو مشروع مفتوح المصدر يتيح للمستخدمين استكشاف الغارات الجوية اليومية والضحايا المدنيين من خلال خريطة تُحدَّث باستمرار. يُثري كل مُدخل بالصور ومقاطع الفيديو والتقارير، يُمثل الموقع أرشيفًا تفاعليًا للحرب وأداةً للمناصرة في الوقت الفعلي. فالجمهور العالمي اعتمد إلى حد بعيد على مقاطع وصور بثها ناشطون وشهود عيان داخل القطاع عبر المنصات المختلفة لنقل صورة الواقع المأساوي. هذه المساهمات الشعبية أثبتت قدرتها على تغيير أجندة الأخبار الدولية، فكثيرًا ما دفعت مقاطع مصورة مروعة تُنشر على المنصات الاجتماعية وسائلَ الإعلام الكبرى إلى تغطية أحداث ربما لم تكن في صدارة اهتمامها.

إن الطابع التشاركي لهذا النموذج يُعيد تعريف ماهية الصحافة. تُمكّن منصات مثل خريطة غزة المستخدمين من تصفح المجازر الموثقة ليس فقط زمنيًا، بل أيضًا مكانيًا – شارعًا بشارع، بيتًا ببيت – مما يخلق إحساسًا عميقًا بالحجم والقرب الإنساني من الأحداث.

و أضاف صعود المصورين الصحفيين المواطنين على وسائل التواصل الاجتماعي بُعدًا جديدًا إلى هذا المشهد. ومن أبرز الأصوات صوت بيسان عودة، الناشطة والصحفية الفلسطينية التي تُقدم تقارير مباشرة من غزة عبر حسابها على إنستغرام.

وقد أصبح سردها القصصي البصري – المكون من لقطات خام وغير مُحررة للدمار والبقاء والمقاومة – شكلاً من أشكال الأرشفة الفورية. ووفقًا للتحليلات المُجمعة من منشوراتها، يحقق كل فيديو أكثر من مليون مشاهدة في المتوسط، ووصل بعضها إلى أكثر من 1.3 مليون مشاهدة. وتشير مقاييس التفاعل إلى أكثر من 130 ألف إعجاب لكل منشور، مع آلاف التعليقات والمشاركات العالمية – مما يُمثل الصدى العالمي الهائل لتغطيتها الشعبية. يُمثل هذا النوع من التوثيق البصري الميداني غير المُفلتَر تحديًا جوهريًا لأطر الإعلام التقليدية. فمحتوى بيسان ليس مُصقولًا ولا مُفلتَرًا من قِبل هيئات التحرير؛ بل هو فوري، عاطفي، ومتجذر في التجربة المُعاشة. وبذلك، يُنشئ سلطة سردية لامركزية تُصبح فيها خطوط المواجهة غرفة الأخبار. لتتوج بفوزها بجائزة ايمي الدولية لفئة القصة الإخبارية عن فيلمها الوثائقي “انا بيسان من غزة.. ومازلت على قيد الحياة”. وتعد هذه الجائزة انتصارًا للرواية الفلسطينية في الإعلام العالمي، حيث سلطت الضوء على معاناة الفلسطينيين بطريقة إنسانية ومهنية.

تُؤكد هذه التطورات مجتمعةً على تحوّل التصوير الصحفي إلى وسيلة تشاركية، تفاعلية، وفعالة سياسيًا. من الخرائط التفاعلية مثل غزة ماب لايف إلى يوميات الحرب على إنستغرام، تبرز لغة بصرية جديدة – لغة لا تروي القصة فحسب، بل تُعيد صياغة كيفية فهمها ومشاركتها وتجربتها حول العالم.

تُظهر البيانات التي جُمعت قبل 7 أكتوبر 2023 وبعده زيادةً ملحوظةً في تفاعل الجمهور مع المحتوى المرئي من غزة. وينعكس هذا التفاعل ليس فقط في حجم المحتوى المُشارك، بل أيضًا في كثافة ردود الفعل العامة، بما في ذلك المشاهدات والإعجابات والتعليقات.

قبل 7 أكتوبر، سُجِّل 4,617 تفاعلًا فقط، مقارنةً بـ 5,566 تفاعلًا بعد ذلك التاريخ، مما يُمثل زيادةً ملحوظةً بنسبة 20.5%. والجدير بالذكر أن المشاهدات شكلت 98.12% من إجمالي التفاعل قبل 7 اكتوبر، وارتفعت إلى 97.63% بعد ذلك. وارتفعت المشاهدات من حوالي 399 مليون مشاهدة إلى أكثر من 14.9 مليار مشاهدة، مما يُظهر زيادةً ملحوظةً في اهتمام الجمهور. كما ارتفعت الإعجابات بشكلٍ كبير، من حوالي 7.6 مليون إلى أكثر من 354 مليون إعجاب، بزيادةٍ تجاوزت 4,500%. كما ارتفع عدد التعليقات بشكلٍ كبير، من أقل من 76,000 تعليق إلى ما يقرب من 7.5 مليون تعليق.

تُسلّط هذه البيانات الضوء على تحوّل جوهري في وظيفة الإعلام المرئي: فهو لم يعد يوثّق الواقع فحسب، بل يُحرّك الاهتمام والتعبئة العالمية. وكما أشارت هيومن رايتس ووتش، استندت العديد من التقارير الأولية عن انتهاكات حقوق الإنسان في غزة إلى صورٍ التقطها مواطنون، والتي غالبًا ما سبقت الوصول الصحفي التقليدي. وهكذا، أصبحت الصور قاعدة الأدلة الرئيسية في المشهد الإعلامي المعاصر.

كما تغيّرت طبيعة أنواع المحتوى بعد 7 أكتوبر. فبينما كانت الصور هي المهيمنة سابقًا (أكثر من 41% من إجمالي المحتوى قبل ذلك)، انخفضت حصتها بشكل ملحوظ بعد التصعيد. في المقابل، اكتسبت “القصص” ومقاطع الفيديو أهميةً، حيث ارتفعت من 49.26% إلى أكثر من 71% من إجمالي المحتوى، مما يُشير إلى اتجاه نحو أشكال محتوى أكثر شخصية وفورية. كما ازدادت أهمية مقاطع الفيديو، حيث ارتفعت نسبتها.

وكما هو الحال مع المصور الصحفي محمد سالم الذي كان يحصل على مشاهدات متواضعة و عدد اعجاب يتراوح بين ٢٠ اعجاب و ٤٠٠ اعجاب قبل السابع من أكتوبر  لتقفز مشاهداته و الإعجاب بمنشوراته الى عشرات الألوف.

و تفوز صورته المؤثرة لامرأة تحمل ابنة أخيها المتوفاة بجائزة صورة الصحافة العالمية لعام 2024،. وقد تداولت رويترز وبي بي سي ومراقبو حقوق الإنسان وورلد برس فوتو الصورة، التي تمّ التحقق منها بشكل مستقل عبر تحديد الموقع الجغرافي والبيانات الوصفية، على نطاق واسع.

وفي نهاية المطاف، هل نستطع القول أ حلّت ن الصحافة المتنقلة وصحافة المواطن حلّت محلّ غرف الأخبار التقليدية في غزة.

تغير المشهد الرقمي لتقارير الحرب؟ نعم بشكل جذري. ما  كان في السابق حكراً على وسائل الإعلام التقليدية أصبح الآن بقيادة أفراد عاديين يوثقون الفظائع في الوقت الفعلي. إن التفاعل العام الهائل مع المحتوى المتعلق بغزة بعد 7 أكتوبر 2023 – والذي يُقدر بمليارات المشاهدات وملايين الإعجابات والتعليقات – يشير إلى تعطش عالمي ليس فقط للحقيقة ولكن أيضًا للروايات الخام غير المفلترة. أصبحت منصات مثل إنستغرام وتيك توك وتيليغرام غرف أخبار في الخطوط الأمامية. ووفقًا لأداة التحليلات    Crowd Tangle التابعة لشركة حلّت  Meta، بلغت المنشورات من غزة مستويات تفاعل قياسية خلال ذروة القصف إلا أن الظهور الذي يُمكّن الصحفيين المواطنين في غزة جعلهم أهدافًا.

فوفقًا للجنة حماية الصحفيين، قُتل على الأقل  ١٥٦ صحفيًا وعاملًا إعلاميًا في غزة منذ أكتوبر 2023، مما يجعلها الفترة الأكثر دموية للصحفيين في التاريخ الحديث. واتهمت منظمة مراسلون بلا حدود (RSF)  الجيش الإسرائيلي باستهداف الصحفيين عمدًا، مؤكدةً أن هذه الهجمات تهدف إلى “إسكات شهود العيان ومنع نشر أدلة يمكن التحقق منها” (تحقيق مراسلون بلا حدود).

كما يوضح الخبير الإعلامي حسام الشرفا:

هذه ليست مجرد صحافة مواطن. نشهد مقاومة رقمية حيث تُعدّ كل صورة، وكل إطار، بيانًا سياسيًا. ما يُسجّله الغزّاويون بهواتفهم ليس مجرد شهادة، بل هو صمود ومقاومة وذاكرة.”

ففي وقت يواجه فيه الصحفيون المحترفون والمواطنون على حد سواء مخاطر غير مسبوقة، بما في ذلك الاستهداف المتعمد والرقابة، أصبح إنتاجهم الجماعي أكثر من مجرد توثيق – إنه شكل من أشكال المقاومة الرقمية والشهادة القانونية والأرشيف التاريخي. في غزة، لم تعد الصحافة مهنة. إنها أداة للبقاء وسلاح للحقيقة.

ولكن شهدنا حالات صارخة من الرقابة الرقمية أثارت جدلًا واسعًا: وهي إيقاف حسابات عدد من المؤثرين الفلسطينيين على إنستغرام، و ادعاءات حذف شركة ميتا لعشرات الآلاف من المنشورات بطلب من إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023. تلقي هذه الوقائع الضوء على أهمية تعزيز الوعي بأساليب عمل المنصات الرقمية، ودور الأفراد العاديين – صحافيي المواطن – في توثيق الأحداث وكسر احتكار المعلومة، وكذلك التحديات والرقابة التي يواجهونها في العالم الرقمي اليوم.

صحافة المواطن قد توفر عنصرًا رقابيًا على الرواية الرسمية للأحداث؛ فعندما يعلم أطراف النزاع أن كل فعل على الأرض قد يُوثَّق وينشر عالميًا في دقائق، يزداد الحرج والحساب الشعبي عليهم. بعبارة أخرى، أصبحت كاميرا الهاتف في يد المواطن سلاحًا لكشف الحقيقة ومقاومة الدعاية المضللة أثناء الصراعات. الا انها هي الأخرى تواجه رقابة رقمية أكبر منها . وهي التي تمارسها الحكومات والشركات المالكة للمنصات الاجتماعية.

وتظهر حالة إيقاف حسابات المؤثرين الفلسطينيين على إنستغرام كمثال حي على هذه الرقابة. فعلى مدار الأشهر الماضية، أفاد نشطاء فلسطينيون بتعرض حساباتهم على منصات ميتا (وخاصة إنستغرام) للتعليق أو الإغلاق دون إنذار واضح. في أوائل عام 2025، كشف الصحافي الفلسطيني البارز صالح الجعفراوي أن حسابيه على إنستغرام – واللذان يتابعهما قرابة 9.5 مليون شخص – قد حُذفا بشكل مفاجئ ودون تفسير. الجعفراوي كان يستخدم منصاته تلك لنقل مشاهد مباشرة من غزة أثناء القصف، ما يجعل اختفاء حسابيه انقطاعًا متعمدًا لصوتٍ ينقل رواية غير مرغوبة ربما لدى بعض الأطراف . ولم يكن صالح وحده بل عدّة ناشطين واجهوا المصير ذاته. وتفيد تقارير منظمات رقمية بأن أربعًا من أبرز الأصوات الفلسطينية على إنستغرام – بحصيلة جمهور تتجاوز 15 مليون متابع تم إيقاف حساباتهم الرئيسية إلى أجل غير مسمّى مما أثار اتهامات للشركة المالكة (ميتا) بممارسة رقابة سياسية على المحتوى. ان اغلاق هذه المنصات أدى إلى حرمان ملايين المتابعين من مصدر معلومات غير رسمي، وحتى بعدما بررت ميتا الإجراء بأنه احترازي أمني، رأى كثيرون في الخطوة استمرارًا لنمط من التضييق على المحتوى الداعم لفلسطين على منصاتها.

من الحالة الثانية البارزة للرقابة الرقمية ما كُشف عنه مؤخرًا بشأن حذف المحتوى بطلب حكومي. فقد ظهرت ادعاءات مدعومة بأدلة مسربة تشير إلى تنسيق وثيق بين الحكومة الإسرائيلية وشركة ميتا لضبط المحتوى المتعلق بالحرب على غزة.

تقرير استقصائي نشره موقع DropSite News في أبريل 2025 وصف الأمر بأنه “أكبر عملية رقابة جماعية في التاريخ الحديث”.ووفقًا للبيانات المسرّبة من داخل الشركة، امتثلت ميتا لما يقرب من 94% من طلبات الحكومة الإسرائيلية بإزالة محتوى من منصاتها منذ 7 أكتوبر هذا يعني أنه تم حذف عشرات الآلاف من المنشورات –أكثر من 90 ألف منشور تحديدًا – بطلب من تل أبيب خلال فترة الشهور التالية لاندلاع الحرب عبر وسمه بأنه مخالف لمعايير المنصة ضمن فئات فضفاضة مثل “الإرهاب” أو “العنف والتحريض”.

واستغلّت في ذلك أولوية خاصة تمنحها ميتا لطلبات الحكومات حيث يجري التعاطي معها بسرعة وتقييم يدوي غالبًا، ما أدى إلى إزالة المنشورات و أن الأنظمة الآلية لميتا وسّعت نطاق الرقابة تلقائيًا بعد 7 أكتوبر، فجرى “التعامل” مع قرابة 38.8 مليون منشور إضافي بشكل آلي عبر فيسبوك وإنستغرام منذ أواخر 2023– و يشمل الإزالة أو الحظر أو تقليل الانتشار للمحتوى  كل ذلك دفع جهات حقوقية إلى وصف الأمر بأنه حملة قمع شاملة غير مسبوقة.

و عند مقابلة الممثل المسؤول لشركة متا- مينا ” حاولنا ان نطرح هذا السؤال “لماذا يتم حجب المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية ؟ ” لكن لم نحصل الا على الإجابة المعتادة .. انه بالأكيد خطأ في اللوغاريتمات .

بالرغم ان هناك منظمات دولية موثوقة تدعم هذه المزاعم بمعطيات وأرقام مثل هيومن رايتس ووتش وان هناك نمطًا ممنهج من الرقابة غير المبررة على المحتوى المتعلق بفلسطين عبر منصات ميتا خلال فترة الحرب. فمقابل1049 حالة كانت لمحتوى سلمي داعم لفلسطين يقابلها حالة واحدة فقط لمحتوى مؤيد لإسرائيل مما يعني أن الغالبية الساحقة من المحتوى المُزال كان عبارة عن أصوات متضامنة مع الفلسطينيين، ما يؤكد وجود انحياز واضح في تطبيق معايير النشر وانتقدت المنظمة ما وصفته بـستة أنماط أساسية من الرقابة الجائرة  مارستها ميتا، تشمل: حذف المنشورات والتعليقات، وتعطيل الحسابات أو حظرها نهائيًا، وتقييد قدرة المستخدمين على التفاعل مثل منعهم من البث أو التعليق لفترات، وخفض الانتشار بشكل خفي أو ما يُعرف بظاهرة الحظر والتظليل Shadow banning   مما يؤكد استهدافًا منهجيًا للمحتوى المؤيد لفلسطين على وسائل التواصل، سواء بتأثير ضغط حكومي أو نتيجة خوارزميات غير محايدة.

وعند سؤالنا للإعلامي سعد الرميحي رئيس مجلس إدارة المركز القطري للصحافة، عن أهمية منصات التواصل الاجتماعي ودورها الصحفي قال :

“تكمن أهميتها الكبرى في إيصال المشهد الحقيقي للناس، ونقل ما لا يمكنهم رؤيته أو تخيله، خصوصًا في مناطق النزاع. الصور أبلغ من الكلام. المقال بدون صور يكون ثقيلًا على النفس، لكن الصورة تعطيه عمقًا وتأثيرًا أكبر، وتوصل الحقيقة بشكل مباشر وسريع، لكنها ليست مصدرًا موثوقًا دائمًا. يجب التأكد من الأخبار من مصادر رسمية. لكن لا يخفى علينا أن وسائل التواصل فرضت شفافية أكبر على المؤسسات الإعلامية وأثرت على الرواية الإعلامية وأجبرت الإعلام التقليدي على تقليل الانحياز. صارت الناس تنشر من كل وجهات النظر، مما أعطى صوتًا للجميع وأثر في الرأي العام، خصوصًا في الغرب تجاه قضايا مثل غزة.”

وعلق الرميحي عن الوعي الرقمي وما يقابله من إغلاق حسابات صحفيي غزة على إنستغرام وغيره “الوعي الرقمي موجود لكن للأسف نحن لا نملك الأدوات .. لأن الأدوات الإعلامية مملوكة للغرب، وهناك تحيّز واضح، خاصة تجاه من يعارض إسرائيل. يفرض رقابة أو حذف على المحتوى المناهض لها. إن نفوذ دول مثل إسرائيل التي تستخدم الفيتو وتؤثر على الإعلام الذي لم يعد حرًا، بل يُتحكم به، حتى في الدول التي تدعي دعم حرية الصحافة. وغير تزايد استهداف الصحفيين الذين لم تعد لهم حرمة كما في السابق. بل صاروا مستهدفين، خصوصًا عند تغطية قضايا تمس دولًا قوية تتحكم بالإعلام”

عندما تُغلق أبواب التغطية التقليدية وتُستهدف الكاميرات الرسمية.. عندما يشتد الحصار على المعلومة ارفع هاتفك وانقل الحقيقة ، فإن المعركة هي معركة الوعي. والوعي الرقمي هو أول أسلحة الشعوب المستضعفة، حين تتحول الهواتف إلى منابر،

إن اي صورة موثقة من أرض غزة – أو أي منطقة نزاع أخرى – هي مقاومة و مسؤولية الجيل الجديد من الصحفيين والمواطنين المشاركين في سرد الأحداث لا يقتصر على  إنتاج المحتوى فقط، بل الدفاع عنه، وتوثيقه، وحمايته من التشويه أو المحو. هذه المسؤولية تتطلّب وعيًا نقديًا بالمنصات، وتعاونًا دوليًا لحماية حرية التعبير الرقمي المعركة ليست على الأرض، بل على الذاكرة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

حقوق النشر محفوظة 2025 فوتوغرافيا النزاع