عن بعد يا حمدان المسافة الأخلاقية الفاصلة بين الصورة والكارثة

“عن بعد ياحمدان .. عن بعد يا حمدان .. كانت هذه إرشاداتي للمصور بعد وصولنا الى مجزرة المعمداني، وجدت اني  أصطدم ببعض الأشلاء، والناس في حالة هستيرية .‏ هذه الصور وهذه المشاهد  كلها لا تصلح للنشر ..

هل ستذهب هذه المخاطرة سدى؟  وجب للعالم كله ان يرى هذه الجريمة ..

بالتأكيد قمت  بالتصوير ، لكن بين كل كلمة كنت كنت أقول عن بعد يا حمدان عن بعد حمدان ، لأنه أدرك أنا ما يقوم بتصويره، مشاهد صعبة  هل سنظلل على الشاشة  كاملة ؟؟ لا يوجد الا  أشلاء ودماء وجثامين .”

كانت هذه شهادة رواها لنا مدير ومراسل قناة الجزيرة الإخبارية في غزة وائل الدحدوح.

ونحن – على الجانب الآخر من هذا الخبر العاجل –  ننظر أيضًا. من هواتفنا. أجهزة الكمبيوتر المحمولة. في المقاهي والمكاتب والمطارات. على بُعد آلاف الأميال من المشهد الحقيقي. ومع ذلك، بطريقة ما، في متناول اللحظة. أو هكذا يبدو.

تنتشر الصور بسرعة على وسائل التواصل الاجتماعي. تناقلتها شبكات الأخبار. أعاد بعض المؤثرين تغريدها. أضاف آخرون تعليقًا، شيئًا شاعريًا، شيئًا حزينًا. تنتشر الوسوم حوله. لبضع ساعات، لكن ماذا يعني ذلك بالنسبة لما يجري؟ بالنسبة لنا؟

إنها دورة مألوفة. في عصرنا الحديث، المُشبع بالصور، لم يكن عمل المصور الصحفي قط أقوى وأكثر غموضاً من أي وقت مضى. كل صورة من الصفوف الأمامية غالباً من مسافة آمنة وأخلاقية. هذه هي المعضلة .

مع صعوبة النظر ، الا ان صور المعاناة ليست بجديدة. من فيتنام إلى سراييفو، ومن رواندا إلى العراق، لعبت الصور الفوتوغرافية دورًا محوريًا في كشف الفظائع. لكن الجديد هو سرعة ونطاق استهلاك هذه الصور اليوم. نغرق في المأساة لحظة بلحظة، ومع ذلك نشعر بإنفصال أكبر من أي وقت مضى.

كل المشاهد الشنيعة التي تصل ، تتباين فيها ردود الفعل. شعر البعض بإستجابة غريزية، بينما شعر آخرون بخدر. بالنسبة للكثيرين، كان الدافع هو مشاركتها، “لزيادة الوعي”. لكن الوعي أصبح عملة بحد ذاتها – قيّمة، لكنها غالبًا ما تكون غير ذات صلة.

نسأل أنفسنا: لماذا ننظر؟ والأهم من ذلك، ماذا نفعل بعد النظر؟

في مقالها العميق “حول آلام الآخرين”، حذّرت الفيلسوفة سوزان سونتاغ من أن التعرض المتكرر لصور المعاناة يمكن أن يعزز المسافة العاطفية بدلًا من التعاطف. كتبت: “التعاطف عاطفة غير مستقرة. يجب ترجمته إلى عمل، وإلا سيذبل”. بمعنى آخر، المشاهدة دون عمل قد تحوّل غريزة أخلاقية إلى عادة سلبية.

في كل مرة تُنشر فيها صورة لطفل مغطى بالغبار بين أنقاض الحرب، أو جسد بلا روح على شاطئ غريب، نتساءل هل التقاط الصور أخلاقي؟ هل هناك مسافة أخلاقية يجب أن تُحترم بين المصوّر والمأساة؟ قد تهز هذه الصورة العالم… لكنها تكسر شيئًا أيضًا.

لا شك أن الصورة الصحفية تملك قوة لا تُضاهى في تحريك المشاعر، ولفت الأنظار، وتحفيز الضمير العالمي. صورة واحدة قد تخلق رأيًا عامًا، وتغيّر سياسة، وتمنح صوتًا لمن لا صوت له. ويتعدى دورها لتعتمد عليها المؤسسات والمنظمات وهنا شرح لنا د. ناصر بن حمد آل حنزاب مندوب قطر الدائم لدى اليونسكو و رئيس لجنة الاتفاقيات والتوصيات المنبثقة من المجلس التنفيذي .

ندرك الأهمية لكن، في المقابل، ثمة ثمن إنساني يدفعه الأشخاص الظاهرون في تلك الصور، الذين غالبًا ما تُسرق مأساتهم دون إذن، وتُحوّل آلامهم إلى مادة بصرية قابلة للتداول، بل وحتى التربّح.

من الناحية القانونية، غالبًا ما يحتمي المصورون الصحفيون بمبدأ “الحق في التغطية” و”المنفعة العامة”. فالصورة تُعد توثيقًا للحظة، ووسيلة لإدانة الجرائم، وكشف ما تُخفيه الأنظمة والسلطات فعند حديثنا مع الدكتورة سوسن سعيد شندي وهي قاضي المحكمة القومية العليا والعميدة السابقة لمعهد العلوم القضائية والقانون في السودان.. وعميدة كلية القانون في جامعة جاردن سيتي حالياً إن الصور الصحفية والفيديوهات هامة ممكن أن تعتمد عليها لجان التحقيق والمحاكم بعد تحليل صدقها وانه لا يوجد تلاعب او تغيير. وهناك عدة طرق لذلك. ولكن هي وحدها لا تكفي، بل يجب ان تكون جزء من أدلة وليست كل الأدلة.  الموضوع معقد ولكن بالنهاية علينا تشجيع الرصد لان له وقع هام عند رواية الاحداث.
فهي تُقبل كدليل اثبات ولكن بضمان وجود علاقة لها بموضوع الدعوى إذا وثقت بها المحكمة. وفي الجرائم الدولية يعتمد على الصور الفوتوغرافي كأي بينة تثبت الجرائم المدعى بها، والبينة هي اي وسيلة يثبت بها أي واقعة مدعى بها وفق قانون الاثبات لسنة١٩٩٤م.
وتلعب دور هام في اثبات دعاوي انتهاك ضد القانون الدولي الانساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.”

لكن الأخلاقيات الصحفية تطرح سؤالًا آخر: هل الغاية تبرر الوسيلة دائمًا؟ وهل يملك المصوّر الحق في انتزاع لحظة من حياة إنسان منهار أو مصاب أو ميت، دون إذن أو سياق؟

في ميثاق الشرف الصحفي، تتكرر مفاهيم مثل “احترام الكرامة الإنسانية”، “عدم استغلال المصائب”، وتجنب الإثارة “. لكن في الواقع الميداني، خاصة في مناطق النزاع، يتداخل الخط الفاصل بين التوثيق والانتهاك.

حين تتحوّل المعاناة إلى محتوى

المشكلة تتعمق أكثر مع تسارع وتيرة النشر الرقمي. فالصورة لم تعد تُنشر فقط في صحيفة محترمة تخضع لمعايير تحريرية، بل تنتقل سريعًا إلى منصات التواصل الاجتماعي، حيث تُفكك من معناها، وتُستخدم لأغراض سياسية أو حتى ترفيهية. وهنا يبرز البعد الأخلاقي الأشد قسوة: من يحمي الشخص المصوَّر من إعادة إنتاج ألمه آلاف المرات؟ ومن يضمن ألا يُحوّل موته إلى “ترند”؟

كم من مصور شعر بالذنب… بظنه انه يستفيد من معاناة الآخرين”. هذه المعضلة بين الواجب المهني والواجب الإنساني هو ما يجعل صحافة الصور مهنة محفوفة بالأسئلة، لا باليقين.

فهل الحل في الامتناع عن التصوير، أو رقابة صارمة على الصورة؟

الصور الصحافية غزة

 يجب إعادة تعريف العلاقة بين المصوّر والمادة المصوّرة. يجب النظر إلى الضحية كشخص له حق في الخصوصية، والكرامة، والسرد الإنساني العادل. لا بوصفه “عنصرًا بصريًا”

قد يساعد إنشاء مواثيق تصوير إنساني ميداني، وتدريب الصحفيين على الأخلاقيات البصرية، في تضييق الفجوة بين العدسة والمأساة. كما يجب أن يكون هناك تشريعات أكثر وضوحًا بشأن الصور التي تُلتقط في مناطق الكوارث، لا تمنع الحقيقة، ولكن تضمن احترام من عاشوها.

لدينا الآن وصول أكبر إلى اللقطات المباشرة والتقارير الميدانية من أي وقت مضى. يُمكننا مُتابعة الصحفيين مُباشرةً من مناطق الحرب، والتفاعل مع الناجين، والتبرع مُباشرةً لقضايا مُختلفة – كل ذلك بنقرة زر واحدة.

لكن القرب لا يعني بالضرورة التفاعل. في الواقع، يُمكن أن تُضعف سهولة الوصول نفسها شعورنا بالإلحاح. عندما نصادف صورةً مثل تغطية مجزرة المعمداني ، فإننا نفعل ذلك في موجز يتضمن أيضًا ميمًا، وإعلان أزياء، وملخصًا رياضيًا. ينهار السياق، وتصبح الصورة مجرد واحدة من بين صورٍ عديدة.وهكذا، تُصبح المأساة مُصطنعة جماليًا.

نبدأ في تقييمها ليس لما تكشفه، بل لما تُشعرنا به. هل هي “مُؤثرة”؟ هل هي “قوية”؟ هل هي “قابلة للمشاركة”؟ هذه الأسئلة، وإن لم تكن خاطئة جوهريًا، تكشف عن تحول خطير في كيفية تعاملنا مع معاناة الآخرين. لقد أصبحنا قيّمين على الكارثة، نختار الصورة التي نهتم بها – ولو للحظة.

وفقًا لتقرير لقناة الجزيرة، نزح أكثر من 90% من سكان غزة خلال الصراع العسكري المستمر. انهارت البنية التحتية. وأصبح الحصول على الغذاء والماء والدواء شحيحًا بشكل متزايد. ومع ذلك، بالنسبة لمعظم أنحاء العالم، لا تزال الأزمة مجرد ضجيج في الخلفية – معقدة للغاية، وبعيدة جدًا، وذات دلالات سياسية كبيرة يصعب معالجتها بشكل هادف.

الآن كردي .. واحد من آلاف من قضوا نحبهم غرقاً . ووافقت المانيا بعدها بيومين على قبول الآف اللاجئين ممن تقطعت بهم السبل في المجر … صورته ظلت باقية..

ولكن ما دور الصور التي لم تُؤثر فينا، فهل وجب التقاطها؟ وهل وجبت مشاركتها؟

بالتأكيد..

لا تزال الصحافة التصويرية شكلاً حيوياً من أشكال الشهادة، لا سيما في المناطق التي تكون فيها التغطية الإعلامية التقليدية محدودة أو مستحيلة. فهي ليست مجرد انعكاس للمعاناة؛ بل هي شكل من أشكال الشهادة. إنها تقول: هذا ما حدث. كان هنا. رآه أحدهم.

المسؤولية تقع علينا إذًا.

هل نسمح لهذه الصور بإثارة الانزعاج؟ هل نتحمل هذا الانزعاج لفترة كافية لنتعلم منه؟ هل نبحث عن السياق، أم نتجاوزه؟

يكمن التحدي الأخلاقي فيما تُسميه الباحثة أرييلا أزولاي “العقد المدني للتصوير الفوتوغرافي” – وهو اتفاق ضمني بين المصور والموضوع والمشاهد. تُجادل أزولاي بأن على المشاهد واجباً مدنياً في التفسير والاستجابة، لا مجرد الاستهلاك.

عندما نرى كل هذه الصور ، لا يُطلب منا أن نشعر بالشفقة. يُطلب منا الاعتراف بإنسانية مشتركة. أن ننظر إلى الإنسان لا كرمز، بل كشخص تتشكل حياته بسياسات وقرارات ولامبالاة خارجة عن إرادته.

تاريخيًا، استُخدم مصطلح “المسافة الأخلاقية” لوصف الفجوة النفسية بين صانعي القرار والمتأثرين بقراراتهم. في الحرب، يُفسر هذا المصطلح كيف يُمكن لمشغلي الطائرات المسيرة في بلد ما تنفيذ ضربات في بلد آخر دون رؤية وجوه أهدافهم. وفي الاقتصاد، يُفسر كيف يُمكن للمستهلكين شراء منتجات مصنوعة في ظروف استغلالية دون تحمل التكلفة البشرية.

في عالم الإعلام، تتسع المسافة الأخلاقية عندما ننظر إلى المعاناة دون سياق. عندما تُجرد الصورة من قصتها، تفقد عمقها. تُصبح صورة الآن و محمد الدرة و فتاة النبالم رمزًا، لا شخصًا. نبكي، لكننا لا نتساءل. نتشارك، لكننا لا نتغير.

وربما يكمن الخطر هنا. تُعطي الصورة وهم المشاركة. لكن بدون متابعة، ليُصبح هذا الوهم ذريعة.

ما المطلوب لسد الفجوة بين الصورة والكارثة التي تُصوّرها؟

بالنسبة للصحفيين، يعني هذا الجمع بين صور مؤثرة وسرد قصصي مسؤول. تضمين الأسماء والتواريخ والسياق. تجنب الإثارة. مقاومة الرغبة في نزع الصفة الإنسانية.

بالنسبة للجمهور، يعني هذا التفاعل مع ما هو أبعد من السطح. النقر على الرابط. قراءة القصة كاملة. دعم المنظمات على أرض الواقع. تثقيف أنفسنا حول الأسباب الجذرية للصراع، وليس فقط أعراضه.

بالنسبة لصانعي السياسات، يعني هذا الاستماع إلى هذه الشهادات – ليس فقط كخلفية، بل كنداءات عاجلة للعدالة.

هم لا يحتاجون إلى لحظة انتشار واسعة. بل يحتاجون إلى مستقبل مشرق. وحل جذري ..

ماذا يحدث عندما تُشيح الكاميرا بنظرها؟ هناك جانب آخر لهذه القصة…

في كثير من الأحيان، يكون اهتمام وسائل الإعلام زائلاً. لحظةٌ ما تجذب انتباه العالم، ثم تُستبدل بأزمةٍ أخرى. لكن بالنسبة لمن في الصورة، لا ينتهي الألم بتلاشي التغطية.

تستمر القصص ، بعد وقتٍ طويل من التقاط الصورة. ربما كان في مخيم للاجئين. ربما يبحث عن أفراد عائلته المفقودين. ربما لم يعد على قيد الحياة. قد لا نعرف أبدًا. لقد منحتنا الكاميرا لمحةً – لكنها لم تُعطنا الصورة الكاملة.

وربما هذه هي الحقيقة الأكثر إيلامًا على الإطلاق: حتى أكثر الصور شهرةً قد تفشل في إحداث تغيير. هذه الشهادة لا تكفي إلا إذا أدّت إلى المساءلة.

ليس السؤال ما إذا كان ينبغي لنا أن ننظر – بل كيف ننظر، وماذا نفعل بعد النظر؟

المسافة الأخلاقية بين الصورة والكارثة غير ثابتة. يتسع أو يتقلص تبعًا لاختياراتنا. سواءً حوّلنا الناس إلى رموز، أو اعتبرناهم كائناتٍ لها أسماء وحياة وأحلام.

لأن التعاطف ليس استسلامًا. الشهادة وحدها لا تكفي. وكل صورة تحمل في طياتها دعوةً للتذكر، للمقاومة، للإصلاح.

وائل الدحدوح و العديد من الصحفيين و المصورين من شهدوا النزاعات لم يكونوا مجرد ناقلين للخبر  بل تحولوا إلى شهود  في محكمة التاريخ و الاخلاق في لحظةً تصدع فيها جدار الحياد الإعلامي، كاشفًا عن هشاشة الفصل بين المهنة والفرد. كان وقوف وائل أمام جثث أطفاله مرآةً مكشوفةً لمفارقة صارخة: ماذا يعني أن تكون شاهدًا كما لو لم تكن الضحية، ثم تصبح الضحية وتُجبر على مواصلة الشهادة؟

في تلك اللحظة، لم تلتقط الكاميرا الحزن فحسب، بل التقطت انهيار ما تبقى من التوازن الأخلاقي في المعادلة الدولية. هنا تحديدًا، يتقاطع ما يفعله وائل الدحدوح مع ما وثّقه مصعب الشامي سابقًا، لا سيما في تغطيته لفضّ اعتصام رابعة العدوية. كلاهما واجه معضلةَ أن يكون جزءًا من الألم ويوثّقه في آنٍ واحد. كلاهما تحمّل ثمنَ التقاط الحقيقة.

في هذا السياق، لا تعود الصورة أداةً للحياد، بل تُصبح طرفًا في الصراع. صياغة مفهوم “المسافة الأخلاقية”، وهو مصطلحٌ يستخدمه النقاد الغربيون غالبًا عند مناقشة دور التصوير في الكوارث. هل من الصواب أن يقترب المصور أكثر من اللازم؟ أن يبكي؟ أن ينهار؟ لم تكن صورة وائل وهو يؤم صلاة الجنازة على ابنه مجرد توثيق، بل خرقًا للعرف: صحفيٌّ يُصبح إمامًا في وداع من قضوا بسبب صمته المهني القسري، بسبب عدسةٍ أُجبر على حملها أكثر من ابنه.

العديد من الصور أعادت صياغة علاقة المشاهد بالصور الإخبارية. لم يعد المشاهد يكتفي بالتعاطف، بل وُجّه إليه السؤال: هل كنتُ أشاهد أم أشارك فحسب؟ أصبحت الصورة مرآةً أخلاقيةً واختبارًا حيًا للحالة الإنسانية.

في عالمٍ تتدفق فيه الصور بسرعة عبر الشاشات والهواتف، تبقى بعض الصور خالدةً، ليس لوضوحها، بل لاضطرابها العاطفي. صورة وائل وهو ينعى ابنه، تؤكد أن الصور لم تعد مجرد سجل بصري، بل وصمة أخلاقية على المستهترين، وإدانة مفتوحة لمن يؤمنون بأن الحياد غير دموي.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

حقوق النشر محفوظة 2025 فوتوغرافيا النزاع