غزة تختنق تحت انقاض الحرب الأثر البيئي المدمر لحرب غزة
عندما تُذكر الحروب، يتبادر إلى الذهن على الفور مشاهد الضحايا والأنقاض والدمار، لكن وسط هذا المشهد القاتم، هناك كارثة صامتة لا تقل فتكًا
البيئة: الضحية الصامتة في حرب غزة
تدمير البيئة في غزة، أحد أكثر الأماكن اكتظاظًا بالسكان في العالم، لم يتوقف العدوان عند حدود البشر والمباني، بل امتد ليضرب الهواء الذي يُتنفس، والماء الذي يُشرب، والتربة التي تُزرع.
في صور التوثيق الصحفي وصور الأقمار الصناعية التي تم جمعها على مدار الشهور الماضية، تبدو آثار الدمار البيئي واضحة كما لو كانت آثارًا لحرب على الطبيعة نفسها. هذه الصور لا تنقل فقط مشاهد الحرب، بل ترصد بشكل مباشر انهيار الأنظمة البيئية التي كانت تؤمّن الحياة اليومية للسكان.
منذ بدء العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023، تتصاعد التحذيرات بشأن الكارثة البيئية التي تُسجّل فصولها يومًا بعد يوم. لم يقتصر القصف على هدم المباني والمنازل، بل أصاب بشكل مباشر البنية التحتية الأساسية شبكات المياه، محطات الكهرباء، أنظمة الصرف الصحي، وحتى مكبات النفايات. بحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة في يونيو 2024، فإن ما خلّفه هذا الدمار من مخلفات متفجرة وحطام يقدّر بحوالي 39 مليون طن، وهو رقم يفوق قدرة أي منطقة حضرية على استيعابه أو التعامل معه. هذه الكمية الضخمة من الحطام أصبحت مصدرًا لتلوث واسع النطاق في التربة والهواء ومصادر المياه.
أحد أبرز تداعيات الحرب البيئية تمثّل في الانهيار الكامل لأنظمة الصرف الصحي. فقد خرجت خمس محطات رئيسية لمعالجة مياه الصرف عن الخدمة، ما أدّى إلى تسرب المياه العادمة إلى الشوارع، والأخطر من ذلك، إلى مصادر المياه الجوفية التي يعتمد عليها غالبية السكان في الشرب. ووفقًا لنفس التقرير الأممي، فإن أكثر من 92% من المياه في غزة لم تعد صالحة للاستهلاك البشري، في وقت يعاني فيه السكان أصلاً من انقطاع متكرر في الكهرباء ونقص حاد في الوقود، مما يجعل تشغيل المضخات وأنظمة التحلية أمرًا شبه مستحيل.
هذا التدهور البيئي الحاد أدى إلى تفاقم الأزمة الصحية في القطاع. حذّرت منظمة الصحة العالمية من ارتفاع خطر انتشار الأمراض في غزة مع تعطل المرافق الصحية وشبكات المياه والصرف الصحي. أُبلغ عن أكثر من 33,551 حالة إسهال، وأكثر من 54,866 حالة عدوى في الجهاز التنفسي العلوي، مما يُظهر تدهورًا حادًا في الوضع الصحي.
تُظهر هذه الأرقام حجم الكارثة البيئية التي تعاني منها غزة، والتي لا تقل خطورة عن الخسائر البشرية والمادية. إنها تذكير بأن الحروب لا تقتل البشر فحسب، بل تدمّر أيضًا البيئة التي يعتمدون عليها للبقاء.
غزة… حين يصبح التلوث وجهًا آخر للعدوان
إن ما يحدث في غزة اليوم لم يعد يُصنّف ضمن خانة “الأزمات الطارئة”، بل يتجاوز ذلك إلى نموذج حي لانهيار بيئي ممنهج في واحدة من أكثر البيئات الحضرية اكتظاظًا وعزلة في العالم. قطاع غزة المحاصر بات مختبرًا مفتوحًا لما يمكن أن تفعله الحروب بالبيئة والإنسان في آن واحد.

Palestinians fill bottles of water for home consumption from a public fountain, at the Rafah refugee camp in the
في غزة يواجهون ندرة الماء التي تُضاف إلى كل ما يمرون به من ويلات. فقد تعطّلت معظم آبار المياه بعد نفاد الوقود، وتضررت محطات التحلية بفعل القصف المباشر، بينما تستمر درجات الحرارة في الارتفاع، ويزداد الطلب على المياه، ليغدو الشرب من مياه ملوثة الخيار الوحيد لكثير من العائلات.
ومع توقف الكهرباء بالكامل، انهارت أنظمة معالجة مياه الصرف الصحي، وغرقت مصادر المياه الجوفية بالتلوث، في ظل غياب أي بدائل آمنة.
ماذا ستكون النتيجة؟ طفرة في الأمراض المنقولة عبر المياه. الإسهال، التيفوئيد، الدوسنتاريا، وحتى شلل الأطفال، كلها عادت للظهور. كل ذلك بينما تستمر إسرائيل في قطع إمدادات الكهرباء والوقود، ما يعمّق الشلل التام في البنية التحتية، ويحول الحياة اليومية في القطاع إلى معركة بقاء.
تُظهر صور الأقمار الصناعية تحول المساحات الخضراء إلى رمادية قاحلة، بينما تُظهر الصور القديمة جذوع الأشجار المحترقة. تستهدف الغارات الجوية الأراضي الزراعية وتجرفها للحد من الغطاء النباتي، مما يؤدي إلى التصحر وإضعاف قدرة البيئة على التنظيف. أشار تقرير مؤسسة الدراسات الفلسطينية إلى أن 80% من القطع الزراعية في غزة قد دُمرت بحلول يناير 2025، وأن المنطقة فقدت أكثر من ثلثي أراضيها الزراعية. تُدمر الجرافات العسكرية والقصف المستمر الشبكات العصبية الاصطناعية، مما يؤدي إلى تدهور التربة وفقدان خصوبتها. أوضح التقرير العالمي أن استخدام الذخائر التي تحتوي على معادن بسيطة ومواد كيميائية متفجرة في المناطق السكنية المكتظة بالسكان في قطاع غزة يؤثر بشكل مباشر على التربة ومصادر المياه، مما يحجب تأثيره على صحة الإنسان. وأبلغهم أن هذه المناطق لم تقضِ فترة زمنية محددة، بل ستمتد لسنوات حيث تجتاح المواد السامة البيئة.
فالماء، الذي يُعتَبَر أصل الحياة، بات يشكل خطرًا على سكان غزة. في أعقاب قصف محطات معالجة الصرف الصحي، تسربت كميات هائلة من المياه العادمة غير المعالجة إلى شاطئ المتوسط، وبات الشاطئ “يلوّن” بالطحالب السامة، خاصة بعد أن اختلطت المياه بأسمدة الآزوت. كما دفعت المياه العادمة إلى أراضي الزراعة، بفعل تعطل محطات المعالجة، وإلى أن تصلح هذه المحطات، كان الماء الصالح للشرب قد لوث في البحر والبر، فاختلطت المياه العادمة غير المعالجة بمياه الشرب الخاصة بالناس، بعد ما وصلت هذه المياه إلى أحواض المياه الجوفية، التي يعتمد عليها الناس في شربهم. حسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني .
السماء محملة “بجزيئات الموت”..
لم تكن سماء غزة زرقاء يومًا ما، لكنها كانت أشبه شيء بالصفاء والنقاء، حتى تغنى بها هواة الطائرات الورقية. اليوم، الوضع مختلف تمامًا. السماء محملة “بجزيئات الموت”. هذا توصيف أطلقته منظمة صحية دولية. المباني المحترقة تطلق كميات هائلة من المواد السامة، وبعض هذه المواد السامة يرصد فعليًّا في أجواء قطاع غزة اليوم، عبر أجهزة رصد في بعض الدول المجاورة.
اليوم رُصدت في أجواء غزة “الجزيئات الدقيقة” التي تعد أخطر أنواع التلوث الهوائي، ليس على مستوى الكثافة فقط، وإنما على مستوى الإطلاق، وهي تنتج بشكل أساس من المواد التي تحتوي على “ثنائي الفينيل متعدد الكلور” (PCBs) والمعادن الثقيلة مثل الرصاص والكادميوم. جرى الحديث أيضًا عن ارتفاع معدلات الربو والسرطان في قطاع غزة.
ومع اقتراب دخول الصيف، لم تعد الحرارة وحدها ما يُثقل أنفاس أهالي غزة، بل باتت النفايات المتراكمة في الأزقة ومخيمات النزوح مصدرًا دائمًا للرعب الصامت. الروائح الخانقة، أسراب الذباب والبعوض، وانتشار القوارض، كلها مشاهد يومية في مناطق لم تعد صالحة للعيش الآدمي. ومع كل شمس تشرق، تتسع دائرة الخطر: التهاب الكبد الوبائي، الأمراض الجلدية، حالات التسمم، تتفشى بهدوء في أجسادٍ أنهكها الحصار والجوع والخوف.
تحلل النفايات لا يرحم، إذ تنبعث منها غازات سامة، أبرزها الميثان وثاني أكسيد الكربون، ما يلوّث الهواء في بيئة لا تملك أجهزة رصد ولا فلاتر وقاية. في المقابل، تتسلل هذه السموم ببطء إلى التربة، وتصل إلى المياه الجوفية، ملوثة ما تبقى من الأرض والماء، في رقعة بالكاد تقاوم للبقاء.
لكن الكارثة لا تقف عند حدود النفايات فقط.
الركام هو الآخر بات عدوًا إضافيًا.
نحو 89 ألف مبنى، بين منزل ومدرسة ومسجد ومركز طبي، سُوّيت بالأرض جزئيًا أو كليًا، مخلفة أكثر من 37 مليون طن من الركام، رقم يتزايد كل ساعة مع استمرار القصف. هذه الأكوام الخرسانية ليست مجرد أنقاض، بل ألغام مؤجلة: في طياتها غبار ملوث، شظايا قنابل غير منفجرة، ومواد سامة مثل الأسبستوس والنفايات الطبية التي دُفنت تحت الأنقاض قسرًا.
تقرير صادر عن الأمم المتحدة وصف إزالة هذا الكم من الركام بأنها “مهمة شبه مستحيلة” ما لم يتوقف العدوان فورًا. وأكد أن الركام لا يمثل فقط تحديًا لوجستيًا أمام إعادة الإعمار، بل هو خطر بيئي وصحي آني وطويل الأمد ، إذ قد يمتد تأثيره لعقود على التربة، والمياه، والمجتمع بأسره.
غزة، في صيفها اللاهب، لا تحترق فقط بنيران العدوان، بل تختنق تحت ثقل ما خلّفه من دمار… دمار يتحلل ببطء، لكنه يقتل بسرعة.
تتناثر الأنقاض في مناطق غزة المختلفة، وتشغل مساحات واسعة من شوارعها ومداخلها وحتى خارجها، يُضاف إلى ذلك أن إعادة تدوير مواد هذه الأنقاض يُعد خطرًا لأنها قد تخلف مواد سامة وانتشارًا غباريًا واسعًا، ولأنها تحتوي على مواد البناء القديمة مثل الأسبستوس، وأيضًا لبناء الأنفاق، ناهيك عن إمكانية وجود ذخائر غير منفجرة في بعض هذه الأنقاض.
كانت مناطق طبيعية مثل وادي غزة ومحمية ألماواسي تواجه دمارًا شبه كامل. فقد حدثت حرائق في الغابات، وهجرة للطيور، واختفاء للثدييات الصغيرة. لم تُعد الحياة البرية كما كانت على المشهد. تحتوي الصور التي تم التقاطها قبل الحرب على الغطاء النباتي والحيواني، بينما تحمل الصور الملتقطة بعد الحرب مشاهد تخلو من أي مظهر للحياة الطبيعية.
وفي تصريح لافت، حذّرت إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، من أن سكان غزة لا يواجهون فقط ويلات الحرب المستمرة، بل يرزحون أيضًا تحت وطأة كارثة بيئية متفاقمة، تهدد بجعل مرحلة ما بعد الحرب أكثر قسوة وطولًا. وأكدت أن البنية التحتية الحيوية في القطاع، وخاصة أنظمة المياه والصرف الصحي، قد انهارت بالكامل تقريبًا، بينما يستمر القصف في تدمير ما تبقى من منشآت أساسية.
فماذا بعد التقرير الأممي الذي أشار إلى توقف جميع محطات معالجة مياه الصرف الصحي الخمس عن العمل وأدى إلى تصريف مياه الصرف غير المعالجة مباشرة إلى البحر والأراضي الزراعية. هذا الواقع المأساوي أدى إلى تلويث الشواطئ والمياه الجوفية والتربة، والتسبب في انتشار واسع لمسببات الأمراض، والجزيئات البلاستيكية الدقيقة، والمواد الكيميائية السامة، ما يشكل تهديدًا طويل الأمد على الصحة العامة والبيئة البحرية والزراعية على حد سواء.
كل هذه المشاهد اليومية تؤكد أن الأثر البيئي لم يعد مجرد عرض جانبي للعدوان، بل تحوّل إلى أحد المحركات الأساسية لتعميق الأزمة الإنسانية، وتهديد مباشر لاستدامة الحياة في غزة. وهو ما يفرض الحاجة إلى وقف فوري للعمليات العسكرية، وإطلاق تدخل دولي منسق لإزالة الركام، وإعادة تفعيل البنية البيئية التحتية، وتأهيل الأنظمة الحيوية التي تمثل شريان الحياة للسكان.
انها كارثة بيئية، تواجه مدينة غزة أزمة بيئية صحية مركبة، أطنان من النفايات الصلبة في الشوارع ومحيط مراكز الإيواء، مما يؤدي لإغلاق طرقات كاملة، وانتشار الحشرات والقوارض التي تُعد ناقلًا مباشرًا للأمراض والأوبئة. ووجود آلاف الجثث المتحللة تحت الأنقاض وفي الطرقات، في ظل غياب منظومة فعّالة للاستجابة الطبية، ما يُنذر بانفجار وبائي لا تُحمد عقباه.
العدوان الإسرائيلي المستمر وما يرافقه من تدمير ممنهج للبنية التحتية، لا سيما المتعلقة بالمياه والصحة والبيئة، أدى إلى خلق واقع غير قابل للحياة في القطاع. فتعطيل شبكات المياه والصرف الصحي، ومنع إدخال الوقود ومواد الإصلاح والمواد الطبية العاجلة، حوّل الأزمة الصحية إلى كارثة إنسانية شاملة ذات أبعاد بيئية خطيرة.
وكما هو في تقرير الغارديان تقول عبير البطمة، منسقة شبكة المنظمات غير الحكومية البيئية الفلسطينية “لقد ألحق الاحتلال الإسرائيلي أضراراً كاملة بجميع عناصر الحياة وجميع العناصر البيئية في غزة؛ لقد دمر الزراعة والحياة البرية بالكامل، مضيفة ما يحدث هو بالتأكيد إبادة بيئية، إنهم يلحقون الضرر التام بالبيئة في غزة على المدى الطويل”..
وتابعت قائلة الشعب الفلسطيني لديه علاقة قوية بالأرض، فهو مرتبط جدًا بأرضه وبالبحر أيضًا، فلا يستطيع الناس في غزة العيش بدون صيد الأسماك أو الزراعة.
ويقول محققو (فورينسيك آركيتكتشر) :”إن تدمير الأراضي الزراعية والبنية التحتية في غزة هو عمل متعمد من أعمال الإبادة البيئية”، مضيفين: “إن المزارع والصوبات الزراعية المستهدفة تعتبر أساسية لإنتاج الغذاء المحلي للسكان الذين يعيشون بالفعل تحت الحصار المستمر منذ عقود. وتتفاقم آثار هذا التدمير الزراعي المنهجي بسبب أعمال الحرمان المتعمدة الأخرى من الموارد الحيوية لبقاء الفلسطينيين في غزة”.
وبناءً عليه، تتطلب هذه الأوضاع تدخلًا دوليًا عاجلًا لوقف التدهور، عبر ضمان إدخال المساعدات الإنسانية والغذائية والطبية بشكل فوري وآمن. ويجب الضغط لإعادة تشغيل خطوط المياه والصرف الصحي، مع حماية الطواقم الفنية. والسماح بإدخال الوقود اللازم لتشغيل محطات التحلية والآبار. وتمكين عمليات إعادة الإعمار العاجلة للبنية التحتية الحيوية.
والأهم وقف هذه الحرب ..
إن استمرار هذا الوضع يهدد بوصول غزة إلى نقطة اللاعودة
كل الصور التي أخذت قبل الحرب وأثناءها وبعدها، لا سيما من قِبَل وكالات مثل AP وAl Jazeera وReuters، تعطي شهادة بصرية لا تقبل التخمين. فهي تُظهر كيف كانت الشواطئ وكيف صارت، وكيف كانت المناطق المزروعة وكيف انتهى بها الحال، ناهيك عن بقع التلوث الحراري التي صارت تميز عدة مساحات من تلك المناطق.
الصور التي تخرج من غزة أصبحت أداة توثيق، وأصبحت تلك البيئة المنتهكة «دليلًا جنائيًّا»، بحسب ما يتداول في الأوساط الحقوقية. إنهم يتحدثون عن إبادة بيئية، وهو المفهوم الذي بدأ يكتسب قوة دفع قانونية عالمية، في وقوع هذا الإكراه البيئي على غزة، وبالأخص في عدد من الأزمات الدولية.
يمثل هذا التداخل بين الأبعاد البيئية والصحية والأمنية في قطاع غزة نتيجة مباشرة للعدوان واسع النطاق، ويؤكد على ضرورة توثيق الأثر البيئي للنزاعات كجزء من التقييمات الأممية، ودمج البعد البيئي ضمن أولويات إعادة الإعمار والتعافي الإنساني.

صورة طارق حسونة الحائزة على جائزة WordPress© Tariq Hassona
التوثيق البصري للبيئة في زمن الحرب
أكد المصور الصحفي طارق حسونة أن عمله في توثيق الحرب ليس مهنيًا فحسب، بل هو شخصي ووطني وأخلاقي بعمق. وقال:
“تصل إلى مرحلة لا توثق فيها الحرب لأنك موظف، بل لأن هذا واجبك تجاه إخوانك. ما يُدمر ليس المباني فحسب، بل منزلك وجغرافيتك هما اللذان يتغيران.”
هذا الشعور بالمسؤولية المدنية يرفع توثيقه البصري من مجرد صحافة روتينية إلى ما يصفه بـ”فعل مسؤولية”.
فلاحظ حسونة تحولًا ملحوظًا في البيئة الطبيعية في غزة. التي تشهد تناقصًا حادًا في الغطاء الأخضر وانتشارًا هائلًا للحطام في أراضٍ زراعية كانت نابضة بالحياة سابقًا:
“هناك تغيير واضح – اختفت جوانب كاملة من الحياة. عندما تقارن ما كان موجودًا بما تبقى، تدرك ما فقدناه.”
أقر حسونة بقوة الذاكرة البصرية. “لقد رأيت هذه المناطق من قبل. أعرف شكلها. وعندما أراها الآن، أشعر أننا فقدنا جزءًا من حياتنا.”
إن إلمامه الشخصي بهذه المناظر الطبيعية يُعزز الثقل العاطفي لمقارناته الفوتوغرافية.
مع أن الطائرات بدون طيار لم تكن أداة أساسية لحسونة، إلا أنه أقر بقدرتها الفريدة على كشف حجم الدمار: “لم أستخدم الطائرات بدون طيار كثيرًا، لكنني أُدرك قيمتها – فهي تُظهر مدى الدمار، وانتشار النفايات، والدمار بطريقة لا تستطيع الصور الأرضية إظهارها.” فحسونة يرى أن التصوير البيئي أساسي في كشف خيوط الحرب التي غالبًا ما تُغفلها التغطية الإعلامية التقليدية. فقد يفهم الناس التقارير الإخبارية، ولكن عندما تُؤكّد الخبر بالصور، تصبح المعلومة لا يمكن إنكارها فهذه الصور البيئية لا تدعم الرواية فحسب، بل تُثبت صحتها.
يواجه مصوري الحروب تحديات في توثيق الآثار البيئية مقابل الآثار البشرية وأقرّ مصطفى بأن المعاناة الإنسانية غالبًا ما تكون لها الأولوية البصرية في توثيق الحروب، لكنه شدّد على أن الضرر البيئي له عواقب طويلة المدى
“نحن لا نوثّق آلام الناس فحسب، بل نوثّق زوال الحياة بجميع أشكالها.”
وأعرب حسونة عن صعوبة جذب الانتباه إلى التدهور البيئي المزمن في ظل المعاناة الإنسانية الملحة. ومع ذلك، أصرّ على أن كليهما يستحقان نفس القدر من الأهمية، حيث يصبح الانهيار البيئي في نهاية المطاف قضية إنسانية. وهنا يظهر دور التصوير الصحفي في مواجهة النسيان والتضليل و دور الصورة في نقل الحقائق البيئية فالصور لها قدرة لا مثيل لها على الإخبار والتحريض.
“لو لم نرَ الصور من أرض الواقع، لما عرفنا حقيقة ما يحدث. الصورة تجعلك تشعر بالتغيير – إنها تطالب بالتغيير.”
وفي دور الصور و استخدامها كشهادة قانونية و سياسية أكد حسونة أن صوره هو ومجموعة من زملائه استُخدمت كأدلة في المحافل القانونية الدولية:
“رُفع كتاب اسمه الدليل أصدرته وكالة الأناضول، يتضمن أعمالي، إلى المحكمة الجنائية الدولية – لذا نعم، أصبحت صورنا شهادة قانونية.”
يُظهر هذا الدور المزدوج للصورة: كأرشيف تاريخي ودليل قانوني محتمل. فصوره تُعرّف الانهيار البيئي في غزة “بعض المشاهد التي التقطتها قبل الحرب، وعندما رأيتها بعدها – كان الأمر لا يُطاق. تشعر بألم نفسي عند مقارنة الحياة قبلها وبعدها.لقد رأى العالم وفهم ما يحدث من خلال صور زملائنا. كان هناك رد فعل حقيقي – لأن هذه الصور تحمل ثقلًا لا تحمله الكلمات.”
ومن حوارنا معه .. سألناه ..
بكلمة واحدة، كيف تصف طبيعة غزة اليوم؟
“جريحة”..
هل يمكن للصورة أن تحمي البيئة؟
“بالتأكيد. بمجرد أن يرى العالم الحقيقة، لا يمكنه أن يغض الطرف عنها.الصورة صامتة، لكنها أعلى صوتًا من أي صرخة.”