عدسة الثورة: كيف غيرت الصور الصحفية مسار الحراك السياسي العربي
مصعب الشامي وقوة عدسة الصحافة التصويرية في زمن الثورات
في سنوات الربيع العربي المضطربة، عندما ترددت هتافات الحرية في القاهرة وطرابلس وتونس، وقف مصور مصري شاب في الصفوف الأمامية، يلتقط بصمت نبض الثورة الخام. اسمه: مصعب الشامي.
مسلحًا بكاميرا وإرادة لا تتزعزع، لم يكتفِ الشامي بالتقاط الصور، بل كان شاهدًا. من نشوة ميدان التحرير إلى أرض رابعة العدوية الغارقة بالدماء، أصبحت صوره دليلًا ومرثاة في آن واحد، تذكيرًا بما ناضل من أجله وما ضاع.
في مقابلة تحدثنا معه عن شعوره بالخذلان كصحفي مصري، وعن الفجوة الأخلاقية بين ما يعيشه الناس وما تُظهره الروايات الرسمية. تلك الفجوة، هي ما يحاول أن يسدّها بعدسته، من غزة إلى السودان، مرورًا بميادين القاهرة. بعض القصص لا تحتاج إلى سرد، بل تتحدث من خلال العدسة. من خلال المقابلة مع مصعب الشامي حول تجربته في تغطية الربيع العربي ومجزرة رابعة ليحدثنا عن تجربته في توثيق ما لا يُوصف كما حدث في مذبحة رابعة عندما فرّقت القوات المسلحة المصرية بعنف اعتصام رابعة العدوية، بعد تجمع آلاف المتظاهرين المؤيدين للديمقراطية. كانت لحظةً غيّرت المسار السياسي لمصر، وحياة الشامي أيضًا. صوّر المتظاهرين المصابين، والخيام المحترقة، وسحب الغاز المسيل للدموع، والصمت المطبق على من رفضوا الانسحاب. تُعدّ صوره من رابعة، والتي نشرت بعضها صحف عالمية مثل تايم، والغارديان، ونيويورك تايمز، من بين أشمل السجلات البصرية للمذبحة.
وفي مقال الشامي الصحفي عن رابعة في مجلة تايم يقول فيه: “كنت أحاول دخول الميدان بكاميرتي، غير مدرك للعنف الذي كنت على وشك أن أشهده. اجتاحت قافلة من المركبات المدرعة الميدان، وأُغلقت جميع المداخل، وبدأ إطلاق النار والدمار… قُتل حوالي 800 شخص في أقل من 12 ساعة.”
صوره من داخل الاعتصام المحترق، ومن المستشفيات المؤقتة، حيث جثث الشهداء وأمهات يفتشن عن أبنائهن في قوائم القتلى، أصبحتُ مرجعًا عالميًا في توثيق المذبحة. إحدى الصور، لرجل يجلس وسط الخيام المشتعلة، وخلفه دخان كثيف ومبرد ماء فارغ وخضروات متناثرة، ترمز لعجز الإنسان أمام آلة القمع ورغم فداحة المأساة، بقي مصعب متمسكًا بضرورة الصورة، بقوة التوثيق، بخلق رواية مضادة.
“الصور تساعد على تذكيرنا أن هذه المذابح حدثت بالفعل. وأن هناك رواية غير التي تسوّقها السلطة. هذا ما يمنح الصورة قيمتها الأخلاقية والسياسية.”
عدسة الشامي، كما تُظهر لنا، لا توثّق الموت فحسب، بل تُعيد للضحية إنسانيته. في زمن يُستخدم فيه الإعلام لتبرير القتل أو طمسه، تصبح الصورة الصادقة فعل مقاومة.
قال إنه في خضم هذا الهرج والمرج حاول التقاط أكبر عدد من الصور أثناء وجوده داخل المستشفى ولم يكن وحده في ذلك حتى أن بعض الممرضين كانوا يسجلون الحدث بالصور ومشاهد الفيديو لتوثيق تلك المجزرة.
عندما تتحول الصورة إلى احتجاج.
التصوير الصحفي لا يقتصر على التوثيق، بل يشمل أيضًا التحدي. في السياقات الاستبدادية التي تُجرّم فيها الصحافة، يُمكن أن يكون التقاط الصورة بحد ذاته تعبيرًا ثوريًا. ولها أثر بالغ في تحريك الرأي العام ودعم الحراكات الشعبية و الثورات فهي لا تكتفي بنقل الخبر فحسب بل تخلق حالة من التفاعل العاطفي و الوعي السياسي بين الجماهير مما يجعلها قوة محركة للتغير .
الصور الصحفية هي توثيق صادق للأحداث وساهم في فضح الانتهاكات والظلم فصور الشامي استُخدمت في تقارير حقوق الإنسان، والتحقيقات القانونية، والتقارير الإعلامية، وأبلغت العالم.
استغلت منظمات حقوق الإنسان الدولية، مثل هيومن رايتس ووتش ومنظمة العفو الدولية، عمله لتسليط الضوء على الانتهاكات في مصر.
تقرير هيومن رايتس ووتش: حسب الخطة: مذبحة رابعة والقتل الجماعي للمتظاهرين في مصر
أصبحت صوره جزءًا من الذاكرة الدولية للظلم، مما أجبر العالم على مواجهة حقائق مؤلمة تُفضّل الأنظمة طمسها.

كان لنا حوار مع سعادة المستشارة الشيخة الهنوف بنت عبد الرحمن آل ثاني -مديرة إدارة المنظمات الدولية في وزارة الخارجية القطرية للحديث عن أهمية الصورة في ساحات النزاع، ودورها في تحريك القرارات الدولية، والتحديات الأخلاقية والمهنية المرتبطة باستخدامها في المحافل السياسية والإنسانية.
1. من واقع خبرتكم في العمل مع المنظمات الدولية، كيف ترون دور الصور الصحفية القادمة من مناطق النزاع في تحريك المواقف السياسية والإنسانية الدولية؟
دور الصور الصحفية القادمة من مناطق النزاع بالغ الأهمية، فهي ليست مجرد لقطات توثق الأحداث، بل أدوات قوية تحرك المشاعر، وتؤثر في الرأي العام، وتدفع باتجاه اتخاذ مواقف سياسية وإنسانية. حيث تنقل الصورة الصحفية ما يتعرض له المدنيين في مناطق النزاع، و توضح صور وصول المساعدات الإنسانية، كما تنقل لنا مواقف و توجهات الدول حيال القضايا الدولية الهامة. ان للصحفي دور هام في نقل الصورة الواقعية، رغم ما تحمله من مآسي، ولكن يتعرض الصحفيون للعديد من المخاطر. وتولي دولة قطر أهمية كبيرة لحماية الصحفيين، خاصة في مناطق النزاع، باعتبارهم عناصر أساسية في نقل الحقيقة وتعزيز حرية التعبير. وتؤكد قطر في مواقفها الدولية على ضرورة احترام القانون الدولي الإنساني الذي يوفر حماية خاصة للصحفيين أثناء النزاعات المسلحة، وتدين جميع أشكال الانتهاكات التي يتعرضون لها من استهداف مباشر أو احتجاز تعسفي. كما تدعم قطر الجهود الأممية والدولية الرامية إلى محاسبة مرتكبي الانتهاكات ضد الصحفيين، وتشارك في المبادرات الهادفة إلى تعزيز بيئة إعلامية آمنة، بما في ذلك دعمها لمبادرات الأمم المتحدة ومنظمات المجتمع المدني المعنية بحرية الصحافة.
2. هل سبق أن لاحظتم تأثير صورة معينة على قرارات دولية أو أممية تتعلق بمناطق نزاع؟ وهل تتعامل الدول مع الصور كأدلة ضغط في المحافل الدولية؟
ان نقل الصورة الواقعية لما يحصل في مناطق النزاع، قد تغير توجهات العديد من الدول حيال القضايا الدولية الهامة. فاستعراض معاناة المدنيين له تأثير كبير على المجتمع الدولي، وخصوصا على مستوى المجتمعات والأفراد. حيث أن نقل هذه الصور قد يؤجج الرأي العام مما يقوم بدورة للضغط على الحكومات، و بالأخص في الدول التي تعمل بالنظام الديموقراطي.
ان الصور التي تنقلها الصحافة قد يتم استخدامها في المحافل الدولية لاستعراض المعاناة الإنسانية التي تمر بها الشعوب في مناطق النزاع، ولكن لا تعد كأدلة كافية، حيث أن المجتمع الدولي يستند على ما نصه القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في مناطق النزاع كدليل قطعي للانتهاكات الجسيمة بحق المدنيين.
3. في رأيكم، كيف يمكن للصحفيين والمصورين أن يحافظوا على مصداقيتهم عندما تستخدم صورهم لاحقًا في سياقات سياسية أو دعائية دولية؟
في كثير من الأحيان نرى صور معاكسة لنفس الحدث في القنوات الإخبارية المختلفة، فالصحفي يمكنه نقل الصورة حسب التوجهات السياسية لدولته أو للقناة الإخبارية التي يعمل بها. يجب على الصحفي أن يُظهر في عمله إلتزاماً بالمهنية، دون الانحياز لطرف على حساب آخر، حتى في أصعب الظروف. والصور التي تعكس معاناة جميع المدنيين، بغض النظر عن انتماءاتهم، تكون أكثر مصداقية وأقل عرضة للتأويل السياسي.
4. ما هي المعايير أو الضوابط التي تتبعها المنظمات الدولية عند استخدام صور النزاعات في تقاريرها أو حملاتها الإعلامية؟
تقوم المنظمات الدولية باستخدام الصور في تقاريرها وحملاتها الإعلامية لتسلط الضوء للمجتمع الدولي على أبرز التحديات او النجاحات. حيث يمكن لهذه الصور أن تظهر معاناة الشعوب في مناطق النزاع والحرب والفقر، أو ان تنقل صورة إيجابية لنجاح المشاريع التنموية او إيصال المساعدات للذين بأمس الحاجة لها. وتلتزم هذه المنظمات عند استخدام الصور الى معايير عديدة ومن ضمنها حماية الكرامة الانسانية وضمان مصداقية الرسالة، حيث أن المنظمات الدولية تنقل صورة واقعية أكثر من التي تنقلها وسائل الاعلام العالمية، فهي من المفترض أن تكون مجردة من الانحياز السياسي وهدفها الرئيسي يقوم على تحقيق الأمن و السلم الدوليين.
تتجنب المنظمات الدولية من عرض مشاهد مهينة أو صادمة دون ضرورة مهنية واضحة، كما تحرص على استخدام الصور في سياقها الصحيح دون تحريف، والتأكد من صحتها ومصدرها، وتجنّب استغلال المعاناة أو توظيف الصور لأغراض دعائية أو تحريضية. كذلك تُراعى الاعتبارات القانونية والأمنية بما يتماشى مع القانون الدولي الإنساني ومبادئ الحياد والشفافية.
5. كيف تنظر وزارة الخارجية القطرية إلى أهمية التوثيق البصري للأزمات الإنسانية في دعم الجهود الدبلوماسية والإنسانية لدولة قطر؟
تقوم السياسة الخارجية لدولة قطر على مبادئ الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وحل النزاعات بالطرق السلمية، ودعم الحوار والتعاون الدولي. كما تركز على الوساطة في النزاعات الإقليمية والدولية، وتعزيز الأمن والسلم الدوليين، إلى جانب دعم قضايا التنمية وحقوق الإنسان. وتسعى دولة قطر من خلال سياستها الخارجية إلى بناء علاقات متوازنة ومتعددة الأطراف، مع الحفاظ على سيادتها واستقلال قرارها السياسي.
ان الصور تعكس الجهود التي تقوم بها الدولة لتحقيق أهداف سياستها الخارجية، حيث تعكس واقع الاحداث وتبرز الجهود المبذولة لتحقيقها، بالإضافة الى تشجيع وحث الدول على تقديم العون والمساعدة للذين بأمس الحاجة اليها. وقد أصبحت دولة قطر نموذج يحتذى به في الوساطة وحل النزاعات بالطرق السلمية وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة ودعم أهداف التنمية المستدامة. ان للصورة تأثير أكبر على المجتمعات. في رأيي الصور أبلغ من الكلمات.
“ نلتقط الصور حتى لا يقول أحد: لم أكن أعرف.”
مصعب الشامي
من خلال مقابلة مصعب الشامي والاطلاع على اعماله سنعلم يقيناً لماذا لا تزال الصحافة التصويرية مهمة؟
في ضوء ما قدمه مصعب الشامي بعدسته من سرد بصري حقيقي، يتضح أن الصحافة التصويرية ليست مجرد توثيق لحظة عابرة، بل ممارسة أخلاقية ومسؤولية تاريخية. فهي تنقل صوت من لا صوت لهم، وتُعيد تشكيل الذاكرة الجماعية بعيدًا عن الروايات الرسمية والانتقائية. في زمن يُساء فيه استخدام الصورة ويُخضعها البعض لخطاب القوة، تأتي عدسة الشامي وأمثاله لتُعيد التوازن، وتُذكر العالم بأن وراء كل مشهد دموعًا حقيقية، وأرواحًا أُزهقت، وحقوقًا ضاعت. لقد أصبح المصور الصحفي، خاصة في مناطق النزاع، ليس مجرد شاهد، بل فاعلًا سياسيًا وإنسانيًا يُحرك الضمير العالمي. وفي زمن تتسارع فيه الأخبار وتُنسى المآسي، تظل الصورة الصادقة هي الحارس الأخير لذاكرة الشعوب، وحافزًا مستمرًا للمحاسبة، والعدالة، والتغيير.